نونُ النّسوة | مقالة لخليل السكاكينيّ

من مجلّة "المنتدى" [الخميس، 01 شباط 1945] | جرايد

 

المصدر: مجلّة "المنتدى".

موعد النشر: الخميس، 01 شباط 1945.

موقع النشر: جرايد.

 

من أعمال المؤتمر النسويّ الموفّق الّذي انعقد في القاهرة منذ حين، أنّه اقترح في إحدى جلساته إلغاء نون النسوة من اللغة العربيّة. ولم أقف على محضر تلك الجلسة، لأعرف الأسباب الّتي حملت هذا المؤتمر على هذا الاقتراح...

إذا كان الغرض من إلغاء هذه النون واستعمال واو الجماعة في مكانها، مساواة النساء بالرجال، فبدلًا من أن نقول: الرجال ذهبوا، والنساء ذهبن، قلنا الرجال ذهبوا، والنساء ذهبوا، على اعتبار أنّ الجنسين جنس واحد لا فرق بينهما – إذا كان هذا هو الغرض من حذف النون، فليس في حذفها غناء. فإنّ هناك ضمائر أخرى تدلّ على الجنس في الإفراد والتثنية، في الغيبة والخطاب، في الماضي والمضارع والأمر. فكيف نسوّي بين الجنسين في الجمع، ونفرّق بينهما في الإفراد والتثنية؟ إذا سوّينا بينهما في الجمع وهو الفرع، فلنبدأ في هذه التسوية بالمفرد وهو الأصل، وإلّا بقينا حيث كنّا. ثمّ ماذا نعمل بأسماء الإشارة، مثل هذا وهذه وفروعهما، وبأسماء الموصول المختصّ، مثل الّذي والّتي وفروعهما، وبالجمع السالم للمذكّر والمؤنّث، كالمؤمنين والمؤمنات، وبعلامات التأنيث في الصفات، كالحمراء مؤنّث الأحمر، والفضلى مؤنّث الأفضل، والسكرى مؤنّث السكران، وفي الموصوفات، كالفتاة مؤنّث الفتى؟

 

 

نعم، إنّ هناك بعض الصفات يستوي فيها المذكّر والمؤنّث، مثل رجل صبور وامرأة صبور، ولكنّها قليلة، ولسنا ندري أكانت الصفات كلّها للمذكّر ثمّ انقسمت إلى مذكّر ومؤنّث، أم كان هناك تذكير وتأنيث ثمّ مالت اللغة إلى التذكير. نترك ذلك لعلماء الفيلولوجيا. مع أنّ المفهوم من المساواة بين الرجل والنساء، أن يتساوى الفريقان في الحقوق والواجبات، لا أن ينقلب الجنسان بجرّة قلم جنسًا واحدًا.

ثمّ إذا أردنا المساواة بين الرجال والنساء، فلماذا اخترنا أن تُحذف نون النسوة، ولم نختر أن تُحذف واو الجماعة؟ أخشى أن يكون ذلك صادرًا عن شعور بالضعة، تتمنّى معه المرأة لو كانت رجلًا، على حين أنّ قيمة المرأة لا تقلّ عن قيمة الرجل في هذا العالم، لتفخر المرأة أنّها امرأة، وليفخر الرجل أنّه رجل. وبعبارة أخرى، لتفخر المرأة أنّها تقوم بما خُلقت له، وليفخر الرجل أنّه يقوم بما خُلق له. ما أقبح هذه الدنيا أن يكون الناس كلّهم فيها رجالًا، وما أقبحها أن يكون الناس كلّهم فيها نساءً... إذا كانت المرأة تحتاج إلى الرجل، فإنّ الرجل يحتاج إلى المرأة، فلا فاضل إذن ولا مفضول.

إذا كان هذا هو الواقع، فلا غنى عن أن تكون ضمائر للمذكّر، وأخرى للمؤنّث، وإلّا وقع التباس كثير، فلا يُعرف جنس الشخص الّذي نتكلّم عنه أو نخاطبه، أرجل هو أم امرأة، ولا عدده، أمفرد هو أم مثنّى أم جمع، كما يقع هذا الالتباس في اللغات الأخرى، لأنّ الضمائر فيها لم تصل إلى درجة الضمائر في اللغة العربيّة من الدقّة. فهذه النون وسائر الضمائر الّتي تميّز بين الجنسين فخر للّغة العربيّة، وهي علامة رقيّ، لا علامة رجعيّة لو فطنّا.

وما أدرانا، لعلّ المرأة تتفوّق يومًا ما على الرجل، وماذا يمنع أن تتفوّق عليه، وهي صاحبة الهمّة العالية، والإرادة القويّة، فيجيء الرجل في دوره، فيعقد المؤتمرات للمطالبة بحقوقه. وقد يشعر بالضعة، فيطلب أن نحذف واو الجماعة وأن نستعمل نون النسوة في مكانها، بل يتمنّى لو أنّ الله خلقه امرأة.

قد يُقال إنّ نون النسوة قد تُستعمل للعاقلات، فنقول: النساء ذهبن. وقد تُستعمل للمذكّر من الجمادات نحو: إنّا سخّرنا الجبال معه يسبّحن بالعشيّ والإشراق. فتقول النساء: إذا خصّصتم الواو بجماعة العاقلين، فخصّصوا النون بجماعة العاقلات على الأقلّ. لكنّ هذا غير صحيح، فإنّ الواو تُستعمل للعاقلين، نحو يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم. فلا مزية للواحدة على الأخرى.

 

 

ولكن، لا ننكر على سيّداتنا أنّ بعض النحاة من القدماء لم يتورّعوا أن يضعوا من شأن الإنسانيّة في موضعين: الأوّل في تغليب المذكّر على المؤنّث، كالقمرين للشمس والقمر، وكالأبوين للأب والأم. فقد قالوا إنّ هذا التغليب كان باعتبار الأفضليّة، أي أنّ المذكّر أفضل من المؤنّث. وقولهم هذا غير صحيح، بدليل أنّهم قد يغلّبون مذكّرًا، كالمشرقين للمشرق والمغرب، وكالعمرين لأبي بكر وعمر. والثاني في تمثيلهم على ال الّتي لبيان الحقيقة، بقولهم الرجل أفضل من المرأة. أي أنّ حقيقة الرجل أفضل من حقيقة المرأة، كأنّهم أعيا عليهم المثال فلم يجدوا إلّا هذا المثال.

ولعلّ سبب ذلك أنّ أئمّة النحاة كانوا رجالًا أوّلًا، وأنّ المرأة كانت موضع احتقار الرجل ثانيًا. وقد سبقهم إلى ذلك أفلاطون، فقد قال: أشكر الله أنّي خُلقت رجلًا لا امرأة. وأرسطو، فقد قال: المرأة للرجل كالعبد لسيّده. ثمّ جاءت أوربّا ففاقت الأوّلين والآخرين في احتقار المرأة وإساءة معاملتها إلى زمن قريب. قالت مجلّة "هود" في عددها الصادر في شهر سبتمبر، سنة 1814: أُبيعت، أي عُرضت للبيع، امرأة رشيقة القوام، وهي زوجة "هنا هول"، بعد اقترانهما بشهر، فبيعت بمبلغ شلنين ونصف الشلن، وبيع المقود الّذي قيدت به بنصف شلن. وقد أحصى بعضهم سنة 1815 عدد الزوجات اللّواتي أُبعن، أي عُرضن للبيع، كالمواشي في جهة واحدة من بلد أوروبيّ خلال سنة واحدة، فكنّ تسعًا وثلاثين امرأة.

فما أحرى بنت اليوم أن تشكر الله ألف مرّة أنّها لم تُخلق في زمان أولئك النحاة، ولا في زمان أفلاطون وأرسطو، ولا في أوربّا قبل مئة سنة. ومَن تتبّع تاريخ المرأة من الماضي البعيد إلى يومنا هذا، يجد أنّ حالتها في تحسّن مستمرّ؛ فقد كانت موضع احتقار الرجل كما تقدّم، ثمّ صارت موضع شفقته، ثمّ صارت موضع احترامه، ثمّ جعلت تحاول أو تساويه في كلّ شيء، وقد خطت في سبيل ذلك خطًى واسعات، وإذا استمرّ هذا التحسّن صُعدًا، فلا بدّ أن تدخل في دور تتفوّق فيه على الرجل، وحينئذ لا يكون أمامها إلّا إحدى طريقين: إمّا أن تنزل به من الاحترام إلى الشفقة إلى الاحتقار، وإمّا أن تكون أكرم منه فتحسن معاملته، وهذا ما نرجوه، ونظرها كفاية.

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.